الاثنين، يناير 11، 2010

رحلتي الى بيت المقدس 1

كان ذلك يوم الخميس العاشر من أيلول سنة ألفين وتسعة والمصادف العشرين من رمضان سنة ألف وأربعمائة وثلاثين هجرية .

الساعة كانت قريبه من الواحدة والنصف ظهراً , والشمس معلقة في كبد السماء تسطع حرا ً أكثر مما هو نوراً.

ومثلما يقولون " الروح متربعة على رأس الانف" من شدة الحر ومن تداعيات الصيام.

كنت في حالة ملل ٍ من لا شيء, او لنقل من شي هو نفستي المُتعَبة والمُتعِبة, ولربما أضفى عليها الصيام شيئا ًمن الصبر هو ما يواسيني لأن أحتسب وأصبر بكلا الحالتين.

وبينما انا أتنقل من شارع الى شارع في بلدتي أقضي وقتي بين صلاتي الظهر والعصر مستعيناً بمكيف السيارة ليخفف عني مشقة الحر والصيام ,إذ بثلاث باصات تستعد للأنطلاق إلى القدس ويتجمهر حولها العديد من ابناء بلدي وأقاربي وهي تنقل ضمن مشروع مبرمج لتعزيز الرباط والتواصل وتكثيف التواجد للمسلمين بالقدس .

فخطرت ببالي فكرة الإنضمام اليهم وهي فرصة قلّ ما تتلائم مع وقتي وظروفي.

فورا ً قررت أن أسافر إلى القدس بتلك الباصات ومع اولائك الناس الذين يبدو انهم أعدوا العدة والمتاع وشدّوا الرحال وجهزوا انفسهم كما اعتادوا والصيام يُضفي الى وجوههم سمحة ايمانية تزيد من اشراق وجوههم المبتسمة فرحاً بالسفر الى القدس أو لنقل تحديدا ً إلى المسجد الأقصى .

بيتي قريبٌ جداً من هذا المكان الذي تقف به الباصات والذي يتجمهر به "المؤمنون"

فقررت أن" أقفز" الى الي البيت وأحضر كاميرا وبعض الحاجات واهمها مبلغاً محترماً من المال ليس هذا الذي أحمله في محفظتي لأني "مُسرف" من الدرجة الأولى بالمشتريات مما هبَّ ودبَّ ويقيناً مني أنه لا يكفيني ما بمحفظتي .

عدت الى الباصات بعد حوالي عشر دقائق فلم أجد أيا ً منها ....

لقد بدأت سيرها نحو القدس

فأسرعت بسيارتي آملا ً ان أَلْحق بهم قبل أن يتعدوا حدود البلده ويدخلوا الطريق السريع مما قد يستحيل عليّ ايقاف سيارتي والصعود الى الباصات .

لكن حظي كان وافرا ً هذه المره وقليلاً ما أكون ذا حظ ٍ وافر ٍ في مجريات أموري, كان الفضل يعود للسيارة لسرعتها وقوة زامورها المزعج الذي أجبر الباص على التوقف , او لنقل لتهوري بالسياقة .

أوقفت سيارتي بجانب الطريق داخل البلد وصعدت الى باص " المؤمنين " وما أن دخلت الباص حتى بداتُ أستسمح الجميع عذراً لتصرفي هذا وان الدافع كان ضيق الوقت الذي حسمَته بضع دقائق لا أكثر , فما كان من الغالب إلا أن قالوا أنَّ الأمرَ طبيعي ودارج ولا يستدعي ذلك الأسف مما عزَّز ثقتي بنفسي.

بدأنا طريقنا من بلدتي داخلين ممر الملوك والقياصرة والفراعنة عبر التاريخ الغابر, انه طريق " وادي عاره", الذي يَتَصَوَّرُ لي دائماً أنه مرصوف بعظام ملايين الجنود والعبيد والمظلومين على مر التاريخ.

لقد بدأ الهدوء النفسي يعود إليّ تدريجا ً, وكلما تقدمت عجلات الباص, تراجعت عندي تيارات الملل التي تجري بعروقي وتجرفني الى الأحباط غالباً.

بدأت مشقة السفر تثلج صدري وهواء المكيف يبرد جسمي .

نساءٌ يُثرثرن وأطفال يتمازحون ورجالٌ النائم منهم والمحدث والشارد ذهنه كما هو حالي, ولكن سرعان تدخل " شيخ الباص" أو لنقل المسؤول عن ترتيب الرحله وسفر الباص, سرعان ما قطع الضجيج بدعاء السفر معيداً الهدوء الى الجميع ومحدثاً الايمان الى قلوبهم .

أركنت رأسي ما بين شباك الباص وبين وسادة الكرسي بشكل مائلٍ متأملا ً المناظر التي نمر بها من قرى وادي عاره ومعالمها الجغرافيه والبنائيه ..

متأملا ً اللوحات الربانية التي خلقها الله في فلسطين,والتي قليلاً ما تسنح لي الفرصه بتأملها لأنني حين أمر من هذا الطريق أكون سائقاٌ لسيارتي الخصوصيه ولست راكباًاح في باص كما هو الحال الآن, بدءً بوادي عاره وامتداداً بالطريق السريع الجديد والذي يُدعى " عابر اسرائيل" والذي نهب إنشاؤهُ أراضي الفلسطينيين العرب بالداخل والضفة , آلاف الدونومات صودرت كي يقام هذا الطريق والذي أنظر أنا الى إنشائه من دوافع سياسية وأمنية وليست تطورية اقتصادية فقط .

هذا الطريق يقسم فلسطين الوطن الى شطرين من الشمال حتى النقب بالجنوب لذلك نرى معظم تضاريس فلسطين الجغرافيه به ونشعر بمناخها المختلف والمتقلب على امتداد هذا الطريق .

فلسطين الغاليه ..

فلسطين الأم التي ترضعنا ترابا ً وتطعمنا زيتاً وزيتوناً وتحتضننا شهداء ..

فلسطين الوطن الذي يسكننا ولا نسكنه ...

فلسطين الحبيبه ..

من المؤكد أن رحلة كهذه لا بد أن تستفز الايمان والوطنية سوية ً, أينما أنظر يميناً أو شمالا ً أرى معالم وطني , فأوقن كل اليقين أن لكل رابية هنا أو هناك قصة بطولية , أوقن أن خلف تلك الروابي والهضاب استأسدت يوماً الأطفال والشباب والرجال والنساء , وتمردت الحجارة وناحت الحمائم .

الآن وقد قطعنا حوالي الخمسين كيلومترا ً تواجهنا من الجهة الشرقية إحدى المدن الفلسطينية العملاقة , انها مدينة طولكرم الشماء وتتوارى خلفها بالأفق الباهت جبال السامره وبعمق تلك الجبال جبل النار نابلس .

تمتد مدينة طولكرم كرابية مسطحة تكسوها البيوت وتعلوها المآذن , فكما لكل رابية قصة بطولية فهنا لكل بيت قصة بطولية أيضا ً والحقيقه أن لكل بيت فلسطيني نفس الشأن.

" حيث ألتفِتُ أرى ملامح موطني وأشم في هذا التراب ترابي "

كلما تقدم الباص الى القدس كلما هاجت داخلي نار الشوق .... ليس للقدس فحسب إنما أشتاق الى تلك الأيام الغابره التى كان للعربي المسلم أن يفتخر بعروبته وفحولته,الى تلك الأيام التي لم تكن معروفة ً بها أمراض تشنج الرقبة و إنحناء الظَّهر و"الروماتيزم " و"الديسكات" التي تجتاحُنا اليوم لكثرة الهزائم , فرؤوسنا مطأطاة وأرقابنا ملتوية , لا انتصارات نسطرها فتُقَوِّمَ ظهورَنا ورقابنا وتشرح صدورنا .

الطريق يأخذ بالإنحدار تدريجيا ً ونحن نتجِه جنوبا ً فلا زالت الهضاب والروابي تغطي الجهة الشرقية والسهولُ المنخفضة تغطي الجهة الغربية وتنتشر عليها المستوطنات الاسرائيلية والمصانع والحقول وتحلق فوقها آلاف الأرواح من اللذين استشهدوا أو ماتوا من أصحاب تلك الأراضي المغتصبة منذ العام 1948.

بدأنا بالإقتراب من مشارف القدس والتي تبعد عن مركز القدس أو المسجد الأقصى حوالي خمسة عشر كيلومترا ونحن بين المنحدرات والمرتفعات الملتوية , وأينما ننظر نرى الأشجار حافةً طريقنا يمنة ً ويسرةً وكأنها تظللنا مما يزيدنا ايمانا ً وطمئنينة ً ورونقا ً وبالتأكيد يزيدنا حسرة ً لأن هذه المنطقة ورغم قدسيتها وقدسية فلسطين كلها لا زالت " مغتصَبة " وأن الملايين من المسلمين والعرب محرومون منها.

على أطراف هذه المشارف المطرزه بعشرات الآليات والمعدات العسكرية الأردنية والعربية المدمَرة منذ العام 1967 أي منذ سقوط القدس , استأسد الرجال والنساء يوما ً دفاعا ًعن القدس , وهذه الآليات لا زالت شاهدة على تلك المعارك , علما ً أن الحكومات الأسرائيلية هي من يحافظ ويصون هذه الآليات والمعدات العسكرية كشاهدٍ على انتصاراتهم يوما ً وعلى هزيمة العرب دهراً, فأتصور كيف دارت تلك المعارك وكيف استبسل أولائك المجاهدون, كيف ودعوا أطفالهم وأهاليهم وجدران بيوتهم وربما حفنوا من تراب حدائقهم واشتموا دخان " طوابينهم " قبل أن يستشهدوا.

الطريق الى القدس مليء بالمآسي, مليء بالحسرات, مليء بالشهيق والزفير والدموع.

كل هذه المناظر والتأملات استرقت الغالبية من " المؤمنين" مما جعل الباص وكأنه دون ركاب, أو لنقل جعلتهم بحالة من الإسترخاء والتأمل والأمل ....

لقد اتسم العمران والبناء بالقدس بطابع خاص ومميز عن سائر البلدات والمدن في فلسطين المحتلة وهو " بناء الحجر " المستخلص من الصخور الطبيعيه فقط .

اذ أن القانون يجبر السكان على تصفيح بيوتهم بالحجر فقط كما ويجبر البلديه بالقدس على تصفيح الجدران والأماكن والبنايات العامه بالحجر فقط ,مما يزيد جمالها ويؤكد عروبتها رغم أنوف الغاصبين .

دقائق ومئات الأمتار تفصل بيننا وبين أسوار القدس ...

تبرد النسائم وتسخن الأشواق ..

أشتم بين الحين والحين عبق وطني الحقيقي ..

اللافتات العربيه تغطي زوايا الشوارع وكذلك الاسماء الاسلامية والكلمات ...

وأخيراً نصلُ الى مفترق طرق وشارة ضوئية تزينه هيبة سور القدس العظيم

تزينه الوجوه السمحة ن المصلين والسكان والزائرين لِما داخل السور ..

تزينه عروبة القدس وإسلاميته ...

يصطف الباص بجانب السور المحاذي لطريق منخفض يصل الى " واد الجوز"

ويتهاتف "المؤمنون" وهم ينزلون منه :

الحمد لله , ما شاء الله , ها قد وصلنا , بيتنا وبلدنا الأول,

مرددين :

آيبون ... تائبون ... عابدون ... لربنا حامدون .....

(يُتبع) ان شاء الله

مصطفى خبايا 

11/9/2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق