كنت جالساً أنا وأحد أصدقائي نشاهد مباراة كرة قدم في ملعب حينا, وكانت هذه المباراة ضمن مباريات دوري عائلتنا التى تحييه في كل شهر رمضان من كل عام , حيث تقوم لجنة العائلة المكونة من عشرة أشخاص بالتنسيق والإعداد والتوجيه والدعوى لهذا الدوري المشرف الذي حاز على صخب إعلامي وذاع سيطه بالبلد كلها بل تجاوز الاعلام المحلي ليتحدث عنه الكثير من ذوي الاهتمامات الرياضة والاجتماعية وكنت انا عضواً في هذه اللجنة , فأخذنا أنا وصديقي نتحدث بأمور هامة والحقيقة انه لم نتابع المباراة رغم أهميتها وأهمية انتمائنا لعائلتنا ولإنجاح هذا الدوري إلا ان موضوع الحديث الذي بدأنا به كان أكثر أهمية بالنسبة لي من الدوري على الصعيد الشخصي .
جلسنا جانباً نتحدث بموضوعنا والحقيقة انه قد تنحينا بعيداً عن مدرج الملعب كي يتسنى لنا الحديث بحرية واستيعابٍ وبعيداً عن الضوضاء التي يحدثها جمهور المتفرجين .
في بداية الأمر انتقدت نفسي لأنني أبعدت عن اللجنة أو على الأقل عن الجمهور اذ انني اعتبرت تصرفي غير مسؤولٍ وظننت ان عشرات العيون ستنظر الي بانتقاد لأنني أبتعدت انا وصديقي وجلسنا بزاوية الملعب , إلا ان وطيس نار المباراة جاء لصالحي حيث استرق كل العيون وابقاني أشعر بالطمئنينة من نظرات الغير.
وما أن بدأنا حديثنا انا وصديقي واحتدم النقاش بيننا لأهمية الموضوع وكنا نظن انفسنا اننا أبتعدنا عن كل الضجيج , إذ بعدة أطفال لا يتجاوزون العشر من أعمارهم يحضرون علبة كوكاكولا فارغة ويبدو أن لهم دوري "كرة كولا" خاص بهم , وبدأوا يصرخون بجانبنا وضجيجهم غلب ضجيج الجمهور البعيد شيئاً ما وصوت دحرجة "كرة الكولا" أزعجنا وخاصةً أنا فقد شعرت ان هذه العلبة المعدنية تتدحرج داخل أذني وتقرع على طبلة أذني .
هذا الامر أزعجنا جداً فقد شتت حديثنا وأتلف موضوعنا لدرجه أنا لم نعد نفهم بعضنا بالحديث ولدرجة أفقدتنا أعصابنا والقدرة على مزاولة الحديث , فشعرت أن صديقي يهم ليضرب الاطفال أو ليطردهم أو ليشتتهم كما شتتوا حديثنا .
ايقنت انه واجب علي انا أن أقوم بدلاُ منه وذالك لربما لمعاملتي الحسنه مع الغير والأفضل من معاملته.
فقمت وطلبت من الاطفال بالحسنى والاستلطاف ان يبتعدوا قليلاً عنا كي نستطيع التحدث وانهم أزعجونا بشدة , وما كان الرد من احدهم إلا انه صدمني بكلماته ولهجته ووقاحته وسوء أدبه , وتطاوله علينا بالكلام والتهجم .
الحقيقه انه صعقني بتربيته هذه فأدركت ان صديقي سيقوم ويؤدبه بالضرب فأسرعت ومسكت الطفل من كتفه ونفضته ولربما آلمته من ممسكه ووبخته وأسمعته كلمات ادبية شعرت انها نُقشت في دماغه , واخذت علبة الكولا ورميتها بعيدا , فما كان من الاطفال الا ان تفرقوا وبقي الطفل "الوقح" وحده.
أمعنت النظر قي ذالك الطفل وكانت نظرتي اليه نظرة تمشيط لملامحه وما قد يجوب في داخله, فشعرت أنه تجمد من كلماتي التي وجهتها اليه وسرعان ما شعرت انها آتت اكلها وقد استوعبها .
أيقنت أن وقاحته ما هي الا حصيلة تربيته البيتية وان الطفل هذا أوعى من جيله وان الكلمات سرعان ما دخلت رأسه وشعرت انني غيرت بداخله كثيراً من الامور ولربما للأحسن .
تجمد الطفل مكانه واعاد إليّ نظرةً عميقةً قد استرقتني اليه وأشعرتني بأنه نادم لأسلوبه معنا بالكلام وليس نادماً لأنه لعب ب"كرة الكولا" .
أخذ الطفل يتنفس أسرع مما كان عليه وكأنه قنبلة موقوتة ليجهش بالبكاء أو الصراخ أو الفزع ....إلا انني استبقته وحضنته وتبسمت في وجهه كي أمتص كل ما بداخله من كبت وقلت له :
أتريد مباراتي ب"كرة الكولا" ؟
فقال : لا ... أنا آسف عمي لأنني تطاولت عليكم بالحديث
فقلت له : لا يهم لا يهم لقد تجاوزنا هذا الامر.... هل تريد مباراتي؟
فقال : ربما لاحقاً ....
أيقنت ان الطفل فعلاً أوعى من جيله وحساس وقابل لأي معاملة يتربى عليها.
أخذت بيده وذهبنا الى "الكشك" القريب ....وسألته ماذا تريدن تأكل أو تشرب؟
فتردد ....ورأيت عينيه تغرقان ب " علبة الكولا " الموجودة بال"كشك"
فسألته كم عدد من كان معك من الاطفال فقال انا وخمسه
فتناولت ست علب من ال"كولا" وقلت له هذه لك ولأصحابك وتناولت لي ولصديقي عصيراً آخراً نشربه.
رافقت الطفل عائدين الى الزاوية حيث كنا, وكان صديقي بانتظاري وأصدقاء الطفل بانتظاره ايضاً , فبدأ الطفل يوزع الغنيمة على الاطفال وبدأ الأطفال يتشكرونني وأخذوا غنيمتهم وابتعدوا .. ..
ناولت صديقي عصيراً ليشربه وأنا كذالك وباشرنا حديثنا بهدوء جزئي ربما
وما ان انتهينا من شرب العصير محاولين العودة الى نقطة الحديث من حيث توقفنا مستذكرين تلك النقطة ...وإذ بحوالي خمسة عشر طفلاً يتراكضون بجانبنا وبين أقدامهم خمس "كرات كولا" , يتراكضون غير آبهين بنا أو بما حدث آنفاً ...فأخذنا انا وصديقي بالضحك المفرط ولم نتوقف وفجأة توقفت عن الضحك واسترقت النظر الى الاطفال محاولاً البحث عن ذالك الطفل "القائد".. ..فلم أجده وامعنت النظر مرة أخرى مدققاً بهم باحثاً عن الطفل فلم أجده وصديقي ما زال منهمكاً بالضحك غير آبه هو الآخر بما أفعل أنا .
فقمت من مكاني باحثاً عن الطفل واقتربت من جمهور المتفرجين مهتماً بالبحث عنه فلم أجده ....
أدركت انني تعلقت بذلك الطفل مؤقتاً ... فأخذت ابحث عنه في الجهة الاخرى للمدرج وهي جهة ال "vip" أو زاوية الشخصيات المهمة حيث كان من الواجب عليّ انا ان اكون بها في كل مباراة مع لجنة الدوري وفجأة وقع نظري على ذالك الطفل يجلس هناك وبجانبه أعضاء اللجنة وعدد من أطفالهم , يجلس بالمكان العاشر المخصص لي كعضوٍ عاشر باللجنة , فانتابتني قشعريرة هزت كياني وأغرورقت عيناي تغزوهما حروقة تخرج من أنفي
فأسرعت الى ذالك الطفل القائد الذي أشعرني أن له مستقبل عظيم أنا أتمناه له أيضاً وحضنته مجدداً وأجلسته في حضني بنفس المكان غير آبه بأعضاء اللجنة وبمعاتبتهم لي أنني لم أطرح عليهم السلام وأنني قد تأخرت بالقدوم اليهم أو قد استخففت بهم ...
وما زال يحمل علبة الكولا الخاصة به وقد شرب جزءً منها فقبلته من جبينه قبلةً مقدسةً أستشعرها بين الأب وإبنه وقلت له :
حين تنتهي من شربها سنخوض مباراتنا انا وانت داخل الملعب ولكن ب " كرة قدم " عاديةٍ , تلك التي يلعب بها اللاعبون الآن . . ...
فرأيت ابتسامته تكاد تشطر وجهه الى شطرين أفقيين .... وفرحته لم تسعها الأرض ومد يده مصافحاً وقال :
اتفقنا ...
مصطفى خبايا
9/9/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق